محاضرة محمد سعيد الرز- مدير إذاعة صوت بيروت أيها السادة الكرام، نجتمع اليوم، في رحابين، رحاب السادس من تشرين، حيث عبق الانتصار يحيي في النفوس والضمائر الحية كل كوامن الأمل... ورحاب المفتي الشهيد الشيخ حسن خالد، حيث قيم الصمود والإرادة والبذل والتضحية تجتمع في شخص عالم جليل أقسم ألا يخضع سوى لله... فأكرمه الله تعالى بالشهادة... وإذا كنا أيها السادة والإخوة، نجد في شهادة المفتي خالد قواسم مشتركة للإنسان العربي الحرّ، والصادق، والأمين على المسؤولية، فإن هذه القواسم ذاتها، شكلت مرتكز الانطلاق لمحو آثار هزيمة 1967، ولتحقيق أولى خطوات الانتصار في السادس من تشرين عام 1973. ومما لاشك فيه، أن كل محطة نوعية هامة في مسيرتها العربية تحمل في خلاصاتها سلسلة من الدروس التي ينبغي التوقف عندها، كي لا نتهم دائماً ، كعرب، بأننا لا نقرأ، وبالتالي يسهل على الخصوم والأعداء إصابتنا بالخسارة والنكسات. وقبل أن نتوقف عند الدروس المستقاة من حرب تشرين عام 1973 ، لا بدّ أولاً ، من أن نمر ولو سريعاً، على الدروس المستفادة من نكسة حزيران عام 1967. لقد كان الواقع العربي عشية نكسة حزيران، مكبلاً بالصراعات الجانبية بين أكثر من بلد عربي، وكانت ملامح الإنفجارات المصطنعة داخل المجتمعات في أكثر من بلد عربي قد بدأت تذر بقرنها، وكانت حملات التشكيك تشن من ناحية، لتقابلها من الناحية الأخرى، حملات تضخيم مقصودة لقوى وأحزاب وفئات وأحياناً لدول، بما هو أكثر بكثير من الواقع والحقيقة. ولقد كان فوق ذلك كله، بل وأمام ذلك كله، اشتداد محموم في هجمة قوى النفوذ الدولي، ومراكز الاستقطاب العالمي، على دول المنطقة وقواها الحية، وعلى حدود العالم العربي، وعلى الدول الإقليمية المجاورة له. لقد بلغت درجة التنافس الدولي لتقاسم المنطقة في أطر نفوذها حداً لم يشهد له التاريخ إلا قليلاً، وكان من جراء هذا الواقع، أنّ عدة صفقات ومصالح دولية أبرمت، ووجدت ترجمتها في تدخل وزراء وسفراء المعسكرين الكبيرين آنذاك، في شؤون المعركة بالمنح والمنع معاً . ولذلك فإننا حين نتوقف أمام دروس النكسة، نجد أن في مقدمتها ما يؤكد، أن الانقسام يقود إلى الهزيمة، وإن الصراعات الجانبية تأخذ من المعركة ولا تعطيها، وأن أي جهد لا يصب في صالح الصراع مع إسرائيل لن تزيد نتيجة عن الصفر، وأن الاستقلال في القرار الوطني والقومي هو الذي يصون الحاضر المستقبل معاً . ومن هذه الدروس أيها السادة، بدأت مرحلة الإعداد لحرب تشرين، في السابع من حزيران عام 1967، أي بعد 24 ساعة فقط على النكسة، وكانت أولى التباشير، في الانتفاضة الشعبية العربية يومي 9 و 10 حزيران لتطالب جمال عبد الناصر بالبقاء والاستمرار ومواجهة التحديات. إن تلك الدروس، هي التي استمرت حتى تشرين، وشكلت تواصلاً مع العبر المستقاة من هذا الانتصار الذي استرد الكرامة العربية. إن أول درس في تشرين هو: أن الإنسان العربي، لا يجب عليه، في أي ظرف من الظروف أن يقع في مصيدة الإحباط والتيئيس، ذلك أن إنساناً يؤمن بالله، وبأنه لا غالب إلا الله، وبأنه يملك الحق، وبأنه يسعى لهذا الحق، وبأنه من أمة جاء فيها منها محمد صلى اله عليه وسلم والصحابة وباقي رموز الحرية والفتح العظيم. وسائر القادة الذين حملوا مشاعل العدل والتقدم من اسبانيا إلى سرر الصين إن إنساناً من هذا النوع لا يجب أن يدع في قلبه أي مجال للقنوط . وثاني الدروس في حرب تشرين يقول، أنه ما اجتمعت مصر وسوريا والخليج العربي وعلى رأسه المملكة العربية السعودية، إلا وكان الانتصار حليف هذه الأمة، والدليل قاطع على ذلك، يتبلور دائماً منذ الغزو الصليبي حتى الغزو الصهيوني. وثالث الدروس يؤكد أن الجندي العربي قادر على استيعاب تقنية وآلية الحرب المتقدمة بما يضاهي أحسن العالم، وها هو تدمير الساتر الترابي على طول خط بارليف، يتم بيد الجندي المصري بإبداع تقني، غاب عن كل قادة الغرب والصهاينة الذين راحوا يحصون كم قنبلة ذرية يحتاجها هذا الساتر، فإذا بالواقع يقول أن الجندي المصري البطل هو أقوى من القنبلى الذرية، لأنه رفع علم العروبة على الضفة الشرقية للقناة وهو يهتف الله وأكبر... وقد لقي ذلك صداه، عند الجندي السوري الذي وقف شامخاً فوق قمم جبل الشيخ. ورابع هذه الدروس يحتّم، أنه حينما يكون القرار العربي حراً، والإرادة العربية حرّة، بعيداً عن ضغوط وتأثيرات قوى النفوذ الأجنبي، وبنا يتوافق مع مصالح العرب فقط، وليس مع مصالح الآخرين كانوا، فإن ذلك سوف يؤدي قطعاً إلى نتائج وخلاصات تأتي في مصلحة العرب أولاً . ونأتي إلى الدرس الخامس من حرب تشرين، لنجد أنه يقول، أن زجّ كل الطاقات في الصراع مع العدو الإسرائيلي، سوف يرتد على العرب باتجاهين، الأول وهو توفير معظم مقومات الانتصار، هذا ما لمسناه في قوى المواجهة وتحديداً مصر وسوريا، التي وظّفت كل طاقاتها وإمكانياتها في المعركة ،وأيضاً بقوى المساندة، وخاصة في السعودية التي حوّلت البترول إلى سلاح قوي طال معظم عواصم الغرب. أما الاتجاه الثاني، فهو أن مردود هذا التوظيف لتلك الطاقات، سوف يعود خيراً وبانعكاسات إيجابية على العرب، وهو ما أدركتاه في تضاعف أسعار النفط والمواد الأولية والنهوض الاقتصادي في معظم الدول العربية. أيها السادة والإخوة، لا شك في أن دروس حرب تشرين، كثيرة جداً، ولكن يبقى أن أكبرها وأعظمها على الإطلاق، هو درس التضامن العربي، فلولا هذا التضامن لما تحقق الانتصار، ولما استرد العربي كرامته وثقته بنفسه وبالمستقبل. إن التضامن العربي هو أساس المعركة ووسيلتها وسلاحها الأكبر... إن هذا التضامن ينبغي أن يقوم، وكما قال الأخ كمال شاتيلا، على قواعد الديمقراطية والتكامل، بعيداً عن مفاهيم التقوقع القطري ونظريات التوسع الإقليمي، في آن معاً... إن الوطنية لا ينبغي أن تكون حاجزاً أمام التكامل بين العرب، في نفس الوقت الذي لا يجب فيه، ولا يمكن فيه، طمس هذه الوطنية أو تذويبها أو مسح خصائصها... إن تكامل الوطنيات، كما دعا لذلك رئيس المؤتمر الشعبي اللبناني، هو طريق التضامن القائم على احترام الخصائص الوطنية وتحرين التدخل السلبي بالشؤون الداخلية لأي بلدٍ عربي... إن هذا التكامل، في حال تحقيقه، كان سيوّفر الكثير من الصعاب والمعاناة والعراقيل، بل والمآزق العميقة في هذه المرحلة من مراحل الصراع العربي – الإسرائيلي... فالصراع مع العدو، كان دائماً، ولسوف يبقى دائماً، صراعاً قومياً، ومن هنا، فقد سقطت دائماً، ولسوف تسقط دائماً، كل الحلول القطرية، ودليل الفشل قد بدأ في اتفاقات أوسلو، وهو يتهيأ سقوطاً – جديداً في قطر. ولذلك، فإن الطريق للنهوض من المأزق، يكون بالعودة إلى التضامن العربي، وبتطوير هيكلية جامعة الدول العربية، وبإصدار ميثاق الشرف العربي وبإقامة محكمة العدل العربية وبالالتزام بالمرجعية الفعلية، وهي التي تتمثل بقرارات الدول العربية، وبمقررات هيئة الأمم المتحدة، حول الصراع العربي- الإسرائيلي، خاصة وأن هذه القرارات وتلك المقرارات قد حظيت بموافقة جميع الأطراف.. أيها السادة والإخوة، لقد كانت دروس النكسة محل استفادة كبيرة، والدليل أنها هيأت لانتصار تشرين.. ولعل السؤال المطروح اليوم، هل نستفيد من دروس تشرين في هذه المرحلة من مراحل الصراع مع الصهاينة ؟... ربّ قائل يقول، أن الزمن بات بعيداً بين ا ليوم وبين تشرين بكل قوته وزهوه وانتصاراته، لكننا نقول، أن تأتي متأخراً خير من أن لا تأتي أبداً ، ولعلّ الدليل على هذا الحضور، يتمثل في فتح السبل، أمام الوطنيين الشرفاء، العروبيين الأحرار، الملتزمين بهويتهم وبانتمائهم دون مصلحة أو سعي لمكسب خاص أو فئوي. من هنا، تبدأ ملامح الطريق السوي، حيث تظهر الأهداف واضحة في عمق النفوس، وتلوح بشائر النهوض المطلوب لمواجهة التحديات المفروضة، بكل قوة، وأمل، وثقة بمستقبل مشرق عزيز. شكراً لكم والسلام عليكم . |